الدجاج الذي لوّث هواءَ قرى بالخميسات وفتح معركة مع الفلاحين

الدجاج الذي لوّث هواءَ قرى بالخميسات وفتح معركة مع الفلاحين




في جانب من إقليم الخميسات، تحوّل الاحتجاج إلى طقس أسبوعي، وأحياناً حتى يومي، مزارعون أهملوا حقولهم وزراعتهم، وركّزوا الكثير من جهودهم على إيصال أصواتهم إلى المعنيين بالأمر، الاحتجاج لا يتعلق بالرغبة في مساعدات مالية، أو توظيف لأبنائهم، وإنما بإرجاع هواء المنطقة إلى سابق عهده، بعدما استحال إلى روائح كريهة خدشت جمالية القرى، ولوّثت فضاءً أخضر يسرّ الناظرين..

أمراض تنفسية، نفوق للبهائم، ظروف لا تشجع على التمدرس، تلك جملة من المشاكل التي خلقتها مركبات الدجاج المبنية بالمنطقة منذ ما يقارب السنتين، الشركة المالكة للمشروع هي الأكبر في اختصاصها بالمغرب، لديها علاقة اقتصادية قوية مع أحد الأذرع المالية للبنك الدولي، تقول إنها تحترم جميع معايير السلامة الخاصة بتربية الدواجن، وإنها مقاولة مواطنة تهتم كثيرا لمصلحة الساكنة، وفي الجانب الآخر، تتهاطل تقارير دولية، تؤكد بعض ما جاء على لسان الساكنة، وتبيّن أن مركبات تربية الدواجن، من الأخطار الحقيقية على البيئة والصحة.

هسبريس زارت منطقة "ريستو-تيداس" ووقفت على جزء من معاناة الساكنة مع دجاج خالف لونه الأبيض الدّال على السلام، ودخل في معركة بيئية مع مزارعين يعتبرون الأرض جزءاً أساسياً من وجودهم..

لوحة طبيعية غاية في الجمال

بضع كيلومترات تفصلها عن الخميسات وتيفلت، منطقة بمناظر طبيعية ساحرة، تمتزج فها خضرة الحقول بزرقة السماء، لتتشكل لوحة قروية جميلة يزيد من تناسقها المواشي التي ترعى بكل حرية في أراضي مضيافة توّفر له ما أرادت من الزرع..مساكن القرويين البسيطة تزيد من توثيق المشهد وتجعله أكثر صفاءً..ورويداً رويداً يتسلل جسم آخر إلى المنظر القروي، بُنيان واسع مصبوغ باللون الأحمر، مساحة واسعة من الأعمدة الحديدية، ومكبّات نفايات يغلب عليها لون البلاستيك الأسود ..



بهذه المنطقة، توجد عدة دواوير تنتمي إلى قبائل أيت بومكسي، من هذه الدواوير هناك الطويجين (أيت زاغو) وأيت عمو وريستو وأيت بوبكر وأيت لعنزي وأيت محفوظ، يُجمع سكانها على معاناة طويلة الأمد مع شركة "أطلس كوفوار" لتربية الدواجن، التابعة لزلاغ هوليدنغ. المنطقة لديها خصوصية فريدة فيما يتعلق بأراضيها، فقرية ريستو مثلا، يعود اسمها إلى مواطن يوناني "أرسطو كيكيس" كان قد سكن بالمغرب خلال القرن الماضي، واشترى عدة أراضي من سكانها، كما تزوج من فتاة من القرية، وكان يتعامل مع الساكنة بكثير من الاحترام حسب ما استقيناه من شهادات، قبل أن يترك كل ما اشتراه نهاية السبعيينيات، مع إقرار سياسة مغربة الأراضي.

فُوّتت أراضي "كيكيس" إلى الدولة، وبعدها إلى شركة "سوجيطا"، ليتم اقتلاع كل الأشجار المثمرة من أجل تعويضها بزراعة الحبوب والقطاني. والآن، وبعد مجيء مشروع "زلاغ هولدينغ"، يقول بعض الساكنة إن الدولة تتعامل مع قرية "ريستو" وكأنها غير موجودة على الخريطة، مع أن معظم ساكنتها من المالكين الأصليين لأراضي سوجيطا.

المركّبات التي حوّلت حياة الساكنة إلى جحيم

عجوز في عقدها الثامن، حكت لهسبريس بمرارة كيف أجهزت الشركة على بيتها البسيط:" كان زوجي يشتغل عند اليوناني، وعندما أراد هذا الأخير الرحيل، أعطاه المنزل كهدية على عمله معه، لسنوات طويلة وذلك البيت يقينا برد الشتاء وحرارة الصيف، قبل أن تأتي هذه الشركة وتهدمه فوق أغراضنا البسيطة. حالياً نسكن في شبه منزل قدّموه لنا، حيثُ نعاني من البرد والحرارة بسبب صغر مساحته وضُعف المواد الأولية التي بُني بها".

بعض الساكنة يتحدثون عن أن شركة زلاغ هولدينغ خدعتهم في البداية، عندما أخبرتهم أنها بصدد بناء معمل لإنتاج المورتديلا، وأنهم استقبلوا الأمر ببساطة لأن معملاً من هذا القبيل، لن ينتج عنه ما يهدد وجودهم، قبل أن يكتشفوا فيما بعد، أن الأمر يتعلق بشركة لتربية الدواجن، لتبدأ فصول معاناتهم مع الروائح الكريهة.




المركبات قريبة للغاية من الساكنة، وتقريباً لا تتجاوز المسافة الفاصلة بينها وبين عدد من الدواوير الكيلومتر الواحد، بل إنه تقف على بعد أمتار قليلة من مدرسة ابتدائية يدرس بها أزيد من 120 تلميذ وتلميذة، في الحقول الواسعة التي تُرعى فيها البهائم، هناك مصب لنفايات الدواجن، وخلف الدوادير بشكل مباشر، هناك وحدات جديدة من مركبات الدواجن في طور البناء.

"زلاغ هولنيدغ" صاحبة هذه الحظائر، هي المجموعة الاقتصادية الأكبر بالمغرب في تجارة الدواجن، لديها أزيد من 15 شركة تعمل في إطارها. كما أن "الشركة الدولية للتمويل"، عُضو مجموعة البنك الدولي، لديها حصة داخل هذه الحظائر، وهناك أخبار تتحدث عن علاقة اقتصادية قوية بين إدارة مكتب البنك الدولي في الرباط ومجموعة "زلاغ هولدينغ"، لا سيما مع القروض الكبيرة التي أعطاها البنك الدولي لمخطط المغرب الاخضر، والاستثمار الكبير الذي دخلت به "الشركة الدولية للتمويل" في رأسمال مجموعة زلاغ، والذي يقدّر بحوالي 24 مليون دولار، لأغراض قالت عنها الشركة: "تنمية المناطق القروية، خلق فرص للشغل، والمساهمة في صناعة للدواجن بشروط صحية وبيئية محترمة".

المعاناة والمرض

"حساسية الأنف..أمراض الصدر..حك الجلد" ذلك جانب من الأمراض التي تنتشر بين الساكنة في هذه المنطقة حسب الشهادات التي سجلناها، تقول إحدى النساء إنها كانت تعاني سابقاً من مرض الحساسية، وأتت رائحة الدواجن لتزيد من معاناتها الصحية. امرأة مسنة أخرى كشفت عن ساقيها المتورمتين بما قالت إنها حساسية ناتجة عن استنشاق هذه الروائح، رجل آخر تحدث عن المرض الذي أصاب عينه، فيما فتحت لنا ربة منزل حقيبة ممتلئة بالأدوية كناية عن الأمراض التي استعمرت أجساد أسرتها بسبب هذه الحظائر.

ليس البشر هو الوحيد الذي يعاني مع روائح هذه المركبات، بل حتى البقر والماعز والكلاب، يتحدث لنا أحد المزارعين عن نفوق بقرتين بعد تناولهما لبعض نفايات الدواجن الملقاة في الحقول، وتتحدث مُزارعة عن نفوق معزتين، بينما اختار مزارع آخر إضافة :" وحتا لكلاب كتضرها هاد الريحة"..

رئيس جمعية آباء وأولياء تلاميذ المدرسة القريبة من المركبات، تحدث عن أن هذا المعمل يساهم في الهدر المدرسي، خاصة وأن لا أحد من المتواجدين في المدرسة من تلاميذ وأساتذة قادرٌ على تحمل الروائح الكريهة، بينما تحدث أحد التلاميذ عن أجواءٍ لا تساعد أبداً على التمدرس داخل الحجرات، مبرزاً كيف أن أسراب الناموس المسرورة بهذه الروائح، تتجوّل بكل تلقائية بين أفواههم .



هل تطبّق القوانين الجاري بها العمل؟

يتحدث محمد أجرار، منسق الائتلاف الجمعوي في تيداس لمناهضة حظائر الدجاج، أن الحكومة كانت قد أتت في وقت سابق بمشروع مطرح للنفايات في المنطقة، إلا أن الساكنة نظمت احتجاجات ضده، ليتم سحب المشروع، وبدله تم بناء مركبات تربية الدجاج، مستطرداً أن مسؤولي الحظائر يعملون على تخويف السكان بادعاء أن العائلة الملكية هي صاحبة هذه الحظائر، وذلك قصد ثنيهم عن الاحتجاج، فيما تؤكد فتيحة أعرور، فاعلة جمعوية، أن هناك تحركاً دولياً كبيراً لمناهضة هذا المشروع الذي لم يحترم التوصيات الدولية المتعلقة بمثل هذه الأنشطة.






الواضح أنه لا زال هناك فراغ فيما يتعلق بالإطار القانوني المغربي المنظم للقطاع، فهناك صمت على المسافة الواجب احترامها بين هذا النوع من المشاريع الضخمة والتجمعات السكنية والمؤسسات التعليمية، والقوانين المتعلقة بهذا المجال تشير أنه سيصدر نص تنظيمي يحدد هذا المسافة، لكن لا يبدو، في الوقت الحالي، أن الحكومة بصدد الإعداد لهذا المشروع أو فتح نقاش واسع حوله، وبينما توصي منظمة التغذية والزراعة بسياسة عزل المشاريع المتعلقة بالتربية المكثفة للحيوانات والدواجن في تجمعات بعيدة عن الساكنة ، نجد أن الحكومة المصرية لجأت في 2013 إلى سن إجراءات احترازية لحماية الساكنة من تبعات الإنتاج المكثف للدواجن، حيث أوصت باحترام مسافة تتراوح ما بين 10 و15 كيلومتر تفصل هذا النوع من المشاريع عن التجمعات السكنية.

وبعيدا عن جدل المسافة، فإن الباحث الاقتصادي نجيب أقصبي يطرح في اتصال مع هسبريس، إشكالا آخر: "زيادة على أضراره على البيئة والصحة، فهذا المشروع يُعمّق الأزمة في القطاع، ويضاعف من حجم العرض رغم تواضع الطلب، لذلك أستغرب تمويل البنك الدولي لمشروع متوفر بشكل كبير في المغرب، كما أنه وفي الوقت الذي تجاوزت فيه أوربا مثل هذه المشاريع لضررها، نقترض نحن مبلغاً مهماً لمباشرة صناعات فاشلة".

أطلس كوفوار: نحن شركة مواطنة تحترم جميع معايير السلامة

في اتصالنا مع شركة "أطلس كوفوار" صاحبة هذا المشروع والتابعة ل"زلاغ هولدينغ"، نفت أن تكون لها النية سابقاً في بناء مصنع للمورتديلا على أرض "الريستو"، وأن الحديث منذ البداية كان عن إنشاء مركب لتربية الدواجن، مشيرة أنها اكترت هذه الأرض ابتداءً من يناير 2009 في إطار مخطط المغرب الأخضر بعد دخولها غمار طلبات العروض، ومبرزة أن المغرب يعرف إلى غاية اليوم أزيد من 7 آلاف مزرعة خاصة بتربية الدواجن تراقب مدى احترام عملها للشروط التقنية الصحية والبيئية طبقاً للقانون 99-
49.



وأضافت الشركة أن مرافق إنتاج الدجاج يجب أن تحصل مسبقاً على موافقة مصالح المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية، وموافقة سلطات أخرى مختصة كالجماعة المحلية وممثلو وزارة الفلاحة. وبالتالي فوحدات إنتاجها تخضع لمراقبة مستمرة من طرف السلطات المعنية، ولا توجد أية آثار سلبية على الساكنة أو المواشي على حد تعبيرها، بل تزيد الشركة أن الساكنة القريبة من مركبات شبيهة بتلك التي تخصها، لا تشتكي أبداً من نفوق ماشيتها أو أي أمراض تنفسية.

وتستطرد الشركة: "بعد شكايات بعض سكان منطقة تيدسي-ريستو ضد أنشطتنا، تشكلت لجنة تضم عامل الإقليم وعشرة ممثلين للسلطات المحلية والبلدية، وزارت مختلف وحدات الإنتاج، لتخلص إلى احترامنا لمعايير السلامة الصحية والبيئية وعدم وجود أي روائح كريهة ولا أي نفايات"، مضيفة أن هناك العديد من العمال الذين يشتغلون ويعيشون داخل وحدات تربية الدواجن دون تسجيل أي معاناة كتلك التي تتحدث عنها الساكنة، وبالتالي فلا يسعُ الشركة سوى "شجب مثل هذا النوع من الشكايات".

أما إدارة البنك الدولي بالرباط، فقد أرسلت لنا الجواب التالي على مراسلتنا: " فى عام 2013، استثمرت مؤسسة التمويل الدولية 24 مليون دولار في أسهم زلاغ القابضة، لمساعدة الشركة فى توسيع نطاق عملياتها الزراعية وخلق فرص العمل والمساهمة في الاقتصاد. ونحن ملتزمون بتنفيذ مشروعاتنا بطريقة تمتاز بالشفافية مع مراعاة المسئولية البيئية والاجتماعية. كما نأخذ أي مخاوف أو شكاوى على محمل الجد ونعمل على البحث فيها والتأكد من معالجة شركائنا لها إذا لزم الأمر. "

هل تُخطط الشركة لترحيل الساكنة؟

تجيب شركة "أطلس كوفوار" بالنفي التام على هذا السؤال، معتبرةً أنها تحترم جميع التزاماتها في إطار الشراكة بين القطاع العام والخاص دون أن تتعرض للسكان المتواجدين فوق هذه الأرض، مبرزة ًأنها تحافظ على علاقات جيدة مع الساكنة التي يشتغل عدد من أفرادها في مركباتها، وأنها مقاولة مواطنة تحرص على تعزيز فرص الشغل بالمنطقة، لا سيما وأنها تقترب من بناء وحدة جديدة لتربية الدواجن بعيدا عن الأرض المسماة "ريستو".

غير أن اللقاءات المتعددة التي أجريناها مع الفلاحين، تشير الى اتجاه آخر في الموضوع، بعضهم يتحدث عن أن هناك رغبة لمحو قُراهم من الخريطة وجعل المنطقة خاصة بصناعات الدواجن، وتحويل هذه المساحة الخضراء إلى مرتع للصناعة، رغم أنها منطقة زراعية خصبة تساهم بشكل كبير في النشاط الفلاحي الوطني.

منظمة "أنيمال كروس" كانت قد أشارت إلى نتائج بيئية خطيرة ناجمة عن صناعات تربية الحيوانات والدواجن كالاحتباس الحراري، إزالة الغابات وتآكل التربة، وتلويث المياه، موردة أنها تؤثر على الموارد الحيوية في بعض الدول السائرة في طريق النمو. كما أن مجموعة دولية خاصة بالبحث في مجال البيئة، أكدت أن مثل هذه الصناعات تمثل خطراً على الكوكب برمته، زيادة على أن منظمة الفاو، أشارت في تقرير لها على خطر هذه الصناعات على البيئة والهواء والتربة والفرشة المائية.

إذن، بين تصميم الشركة على الاستمرار في بناء وحدات جديدة من مركباتها الخاصة بالدجاج في المنطقة، وعزم الساكنة على خوض احتجاجات أكثر قوة في الأيام المقبلة، يظهر أن منطقة "تيدسي-ريستو" تشكل أحد أكبر التحديات للحكومة المغربية المُصادقة على هذا المشروع، وتسائل البنك الدولي على مساهمته في مشروع خلق كل هذا الجدل. منطقة يعتز فيها سكانها بأراضيهم ومواشيهم، ولا يظهر أبدا أنهم مستعدون للتخلي عن كبريائهم لفائدة شركة..حتى ولو قيل عنها إنها شركة مواطنة  













إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة أخبر ريستو ©2015| ، نقل بدون تصريح ممنوع . Privacy-Policy| إتفاقية الإستخدام